العلّامة الراحل السيِّد محمّد حسين فضل الله
◄عندما نتطلَّع إلى المعاني والآفاق التي ينفتح عليها هذا الشهر المبارك، فإنّنا نلتقي بالجانب الروحي الذي يفيض على عقل الإنسان، ليكون العقل مسؤولاً أمام الله في أن يؤكّد الحقيقة في كلِّ حركته الفكرية التي تؤصّل إنسانيّة الإنسان، وتجعله يتحسّس روحيته في عالم الروح، ومسؤوليّته في عالم المسؤوليّة، وإنسانيّته في كلّ ما يغني الإنسانيّة في كلِّ تطلّعاتها وأوضاعها وانفتاحها على الإنسان كلّه في عملية تواصل وتكامل وتعاون.
وهكذا ينفتح هذا الشهر على القلب لينبض بالمحبّة التي تعيش لتتطلّع إلى الكون كلّه، في إنسانه وحركته وكلّ ظواهره، بالمحبّة، باعتبار هذه الروح التي توحي للإنسان بأنّه جزء من هذا الكون يغتني به ويغنيه من خلال حركته الفكريّة في ما يخطط للكون، بحيث يؤنسن الكثير من حالات الكون، كما يستفيد منه ويتعلّم كيف ينتج الخصب والرّخاء من خلال الينابيع المتفجّرة المتدفّقة، أو كيف يزرع الأرض من خلال هذا المطر الهاطل من السّماء، أو من خلال النّور الذي يفيض من إشراقة الشّمس ليعطي الحياة رخاءً.
أن تكون المحبّة نتاج كلِّ قلبٍ ينفتح على القلب الآخر، وأن تكون الرحمة التي هي ابنة المحبّة، من أجل أن تمسح على رأس اليتيم هنا، وتضمّد جراح الجريح هناك، وتمسح دمعة الحزين، وتغرس في كلّ قلب المعنى الذي يستشعر فيه بالمحبّة والسّلام.
وهكذا نستوحي من شهر رمضان كيف يعيش الإنسان ليحلّق في مواقع القرب من الله ليعيش معه، ليستمدّ منه القوّة والعزّة والانفتاح على كلّ المعاني القيمية الروحيّة.
إنّنا نقرأ في شهر رمضان بعد كلِّ صلاة، دعاءً يوحي بأنّ على الإنسان أن يتطلّع إلى كلّ الذين يعانون من الآلام ومن المآسي، ليشاركهم ذلك، وليرفع دعاءه إلى الله بأن يفرج عنهم، تماماً كما لو كان يدعو لنفسه: «اللّهمّ أدخِل على أهل القبور السّرور، اللّهمّ أغنِ كلّ فقير، اللّهم اقضِ دين كلّ مدين، اللّهمّ فرّج عن كلّ مكروب، اللّهمّ ردّ كلّ غريب، اللّهمّ فكّ كلّ أسير، اللّهمّ أصلح كلّ فاسد من أمور المسلمين، اللّهمّ اشفِ كلّ مريض، اللّهمّ سدّ فقرنا بغناك، اللّهمّ غيّر سوء حالنا بحسن حالك، اللّهمّ اقضِ عنّا الدَّين وأغننا من الفقر إنّك على كل شيء قدير».
وهكذا ننطلق في شهر رمضان، لنشعر بأنّه شهر الصيام الذي يجعل الإنسان يتصلّب في إرادته، عندما يواجه كلّ السلبيّات التي ربما تجتذبه ليؤكّد ابتعاده عنها، وليواجه الإيجابيّات التي يُراد له أن يأخذ بها لينفتح عليها، ثم هو شهر القيام الذي يقف فيه الإنسان بين يدي ربّه في الليل والنهار، لينفتح على ربّه، وليسموَ بروحه إلى الله، لأنّ الصلاة هي معراج روح المؤمن إلى الله، حيث يلتقي المخلوق بالخالق ليستمدّ منه كلّ ما يغني عقله وروحه وفكره، وليتضرّع إليه في أن يهديه إلى الصّراط المستقيم، ولأن يسير به نحو الدّرجات الرفيعة للرّضوان، حيث يلتقي به بعد أن يفارق الحياة ليعيش في رحمته ولطفه وجوده وكرمه.
ثم هو شهر الرحمة التي يعيشها الإنسان في نفسه، لتنفتح على كلّ الناس الذين لابدّ للإنسان من أن يرحمهم في كلّ نقاط الضعف التي يعيشونها، وهو شهر التحرّر من كلّ العبوديات التي يخضع لها الإنسان.
وهو في الوقت نفسه في تاريخه شهر الجهاد، لأنّنا نلتقي في شهر رمضان بحرب بدر وبفتح مكّة، وقد كانت أولاهما مفتاح القوّة للإسلام، وكانت الثانية مفتاح الفتح للإسلام.
لابدّ للمسلمين الذين يصومون في هذا الشهر ويتوحّدون فيه، ويصلون إلى الكعبة المشرّفة، وينفتحون على كلّ عباداتهم بالدعاء والابتهال وقراءة القرآن، أن يشعروا بالوحدة الإسلامية التي تجمعهم على هذه القواعد التي لا يختلف فيها مسلم عن مسلم، لتكون الوحدة في ما اتفقوا عليه وسيلةً من وسائل تجربة السير نحو الوحدة في ما اختلفوا فيه، وعلى المسلمين أن يعرفوا أن وحدتهم هي سرّ قوتهم، وأنّ عليهم أن يعتصموا بحبل الله جميعاً، وأن يشعروا شعور الأمّة الواحدة التي يُراد لها أن تقود العالم فكريّاً وروحيّاً وعمليّاً.
إنّ شهر رمضان هو شهر الوعي واليقظة والإرادة والأخذ بأسباب القوّة، وعلينا أن نرتفع إلى مستواه، بعيداً من الجوانب التقليدية التي تجعله مجرّد شهر نترك فيه طعامنا وشرابنا في وقتٍ من الزّمن، فننسى في إفطارنا كلّ الفقراء والمساكين الذين لا يجدون ما يأكلون وما يشربون وما يغتنون به في حياتهم.►
*حوارات فقهية / مجلة "كواليس" العام 2004، العدد: 83.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق